top of page

هوس المخاطب في مجموعة «وجه أرملة فاتنة» لفاطمة المزروعي

 

 

إبراهيم الحجري-الدار البيضاء

تتميز الكتابة القصصية في مجموعة «وجه أرملة فاتنة» للكاتبة فاطمة المزروعي بالعمق، سواء من حيث مبادرتها إلى مقارعة القضايا الإنسانية الحساسة، أو من خلال اعتماد طرائق سردية متميزة تنزاح عن المتداول والمعروف. لكن الأهم هو أن التوجه التجريبي للقاصة يظل وفيا للنوع القصصي، حيث يتم التجديد من الداخل مع احترام الخطية السردية أحيانا، وحتى إذا كسرتها يتم ذلك وفق نموذج الحكي العميق الذي يرفض الإغراق في التجريب الذي يخرب النوع ويعتمد آفاقا أخرى بعيدة عن عالم الحكاية.تقتنص فاطمة المزروعي لحظتها القصصية المتمثلة في الأحداث والعوامل والفواعل والفضاء والزمان من الواقع نفسه، مع تعديلات تسمو به نحو عالم التخييل. وتنحو به منحى فنيا يتأبى على الاستنساخ والإسقاط والنقل الحرفي للحوادث والنوازل التي يعج بها الواقع. لأنها تعي أن هذا العمل موكول لجهات أخرى غير القصة، مثلما تعي أن الواقع في القصة يجب أن يخضع للتحوير والتحويل تبعا للرؤى الفكرية التي يحملها الكاتب.وتشتغل الكاتبة بالمروي له بوصفه معادلا للمتلقي الضمني الذي توجه إليه الرسالة، وباعتباره مشاركا في الصوغ الفني، وفي بناء أحداث النص القصصي. وهي تقنية قلما اهتم بها الكتاب. إن لعبة الضمائر تؤجج فكرة الحضور والغياب بين الشخصيات والفواعل. لقد استعانت الكاتبة بتعدد الضمائر، عن وعي، من أجل خدمة الرؤية النصية. إن تغيير الضمير الذي يحكى به، يتيح خلق مسافة بين الكاتب الفعلي وعموم الترهينات السردية من جهة. وبين الراوي المشارك في القصة والشخصيات من جهة ثانية.إن تبديل الضمائر وتغييرها، في حد ذاته، ليس سوى لعبة تمويهية قصد إيهام المتلقي بتغيير صيغة المحكي ووجهة الرؤية. فالضمائر مهما تغيرت تبقى مجرد مرايا لبعضها البعض، ومهما اختلفت فهي في الأخير تشير إلى ذات واحدة. ويتضح ذلك من خلال الأمثلة التالية:- «في المساء، ترى ذلك الزقاق الصغير مملوءا بالمارة العائدين من جولاتهم كالمعتاد، تلتفت يمنة ويسرة، ترى الكثير من المشاهد المتكررة يوميا...» ص9.- «أعود من الكلية مساء، أجده جالسا على مقعده، أتمعن في ملامحه، وأرى كيف يحتضنه الزمن بوداعة...» ص11.- «أحمل كومة جرائد أشتريها من بائع متجول للأشياء القديمة، أنكب على قراءتها سطرا سطرا، أهل الحي يرمقونني بنظرة رأيتها من قبل.. حتى إذا كان ذات المساء رفعت رأسي فإذا بي ألمح طفلا في نحو الثانية عشرة من عمره ينظر إليَّ بفضول...» ص12.إن ضمير المخاطب في العبارة الأولى يصير، فيما بعد، ضميرا للمتكلم كما ينص على ذلك المقطع الثاني. وإذا كان الراوي مشاركا في الحدث في المقطع الثاني، فإنه يتخلى عن المشاركة في المقطع الأول، لتتخلخل بنية الاستقبال لدى القارئ وتشوش الحكاية عنده حول من يحكي ومن يشارك في الحدث. إن هذين الضميرين هما وجهان لشخص واحد. وحتى شخصية الطفل التي كانت في بداية القصة تراقب الرجل مدمن المقاهي وقراءة الجرائد كلما مر من المدرسة أو الجامعة أمام المقهى المعلوم، سيصير هو نفسه الرجل مدمن المقهى وقراءة الجرائد في المقطع الأخير، فيما يحل محل الطفل أشخاص آخرون يتطلعون إليه وهو في جلسته تلك بفضول. وكان الفعل في القصة فعلا دائريا يتناوب على الشخوص إلى الأبد.وإذا كانت المقاطع السابقة قد وظفت ضمائر مختلفة من أجل التدليل على شخص واحد، فإن قصصا أخرى تعدد من الضمائر في النص الواحد للتدليل على شخوص متعددة مشاركة في القصة نفسها أو غير مشاركة وتحضر في ذهن الراوي أو ذاكرته، لنتأمل المقاطع التالية:- «تصايحت الصغيرات بفوضى عالية» ص13.- «كانت المعلمة غاضبة» ص13.- «هيا ارسمي الذئب يا حنان» ص13.- «لم أكن أقصد سامحيني» ص14.- «أخبروها ألا تذهب حتى لا يلتهمها الذئب» ص16.إن تعدد الضمائر في هاته المقاطع يحيل على فكرة مفادها أن النص يبنى أفقيا من طرف الكاتب ومتلقيه الذي يجب حتما أن ينخرط في جو النص كي يكتمل المعنى. غير أن كل المقاطع، رغم تعدد الضمائر ووجهات النظر، تفصل بين الشخصية والراوي حينا، وتقحمهما في بعضهما حينا آخر، مجسدة فكرة التذويت أو إسقاط الأنا على الآخر وجعلها مرآة له، أو جعله هو مرآة لها.ورغم الحياد الذي يموِّه به الرواة المتلقي الضمني، فإنهم غالبا ما يكونون قريبين من الشخوص إلى درجة كبيرة، فهم يتجسسون على أصغر حركاتهم، ويراقبونهم في حلهم وترحالهم، ويقيسون نبضهم، بل يحسبون أنفاسهم ودقات قلوبهم، كما يعرفون رائحتهم وهواجسهم ومطامحهم «تتذكر خوفك وأنت طفل صغير من الناس، ورهبتك من الوجوه، كنت تدس وجهك في ثوب أمك، تتوارى خلفها، متسائلا في سذاجة: لِمَ وجوههم مختلفة؟» ص34. لهذا أمكنني القول إن توظيف المخاطب في النص هو تقريب المسافة وليس إبعادها، وذلك بغرض القبض أكثر على الشخصية، وتفصيل القول عن الذات من دون أن يفطن القراء إلى ذلك.إن اختيار التبئير الخارجي عبر المنظور الرؤيوي للقصص، يعبر عن استسلام الشخوص لسوء أحوالهم، واعتبارها من باب التسليم بالقدر خيره وشره. ولعل إمساك الرواة بزمام الأمور سواء عبر اختيار طبيعة الشخصيات وتوكيل نوع من الأفعال لها، أو نسبة صفات معينة لها، هو من باب تكريس هذا الوعي الأيديولوجي بواقع مر. واختيار فاطمة المزروعي لهذا المنظور هو في حد ذاته تعبير عن السخرية من هذا الواقع، وانتقاد مبطن له، بل وتحريض واضح على الانتفاض ضد الواقع المزيف الذي يخنق الناس والأشياء ويفرغهم من حيواتهم المعنوية ويجعلهم أمواتا وخشبا تمشي في ضياع صوب الهاوية المنصوبة لهم.وفضلا عن ذلك، تمارس الكاتبة حقها السردي في توظيف الوصف بقوة: هناك نصوص قصصية من المجموعة تُبنى برمتها على الوصف لديكورات أو شخصيات أو أفضية. لكن هذا التوظيف الوصفي مصحوب برؤية سردية: تصبح الأشياء راوية عن نفسها، لأن أوصافها وملامحها تنطق وتعبر وتسرد هويتها التي لا تختلف كثيرا عن مسرود الحكاية. إن الكاتبة هنا، بوعي تجريبي، تستعيض عن الحكي الذاتي بحكي الفواعل عن ذاتها. كما أنها تستبيح تقطيع الحكاية إلى مقاطع، وفقرات متلاحمة بين ثغرات سردية ووقفات، تساعدها على استعادة أنفاسها السردية، والتفكير في مسارات جديدة للحكي.لم تنسَ القاصة، وهي تحكي، أن تلهج ببوح الذات الأنثوية في انكساراتها، ومقاومتها لسلط الرجل والمجتمع وثقافة الحريم، موظفة السخرية من القيم التي تستعبدها، ومن القيود التي تجردها من إنسانيتها وعيشها الكريم. إنها ترصد العلاقات الدقيقة بين الشخوص، وتنصت لنبض المجتمع السحيق وخيباته، وتبحث للقصة عن معنى حقيقي يجعل النص ماثلا أمام المخيلة الشعبية، راسخا في تثبيت القيم الثقافية الحرة التي تعيد للكائن كرامته في واقع يستبيح الكرامات.

 

bottom of page