top of page

قصة في مستوى الأبداع

 

من جميل ما قرأت مؤخراً، وأنا أعد مراجعة لكتاب “مبدعون من الإمارات القصة القصيرة”، نص بعنوان “فن الاختباء” للكاتبة فاطمة المزروعي، وأول ما استوقفني هو بنية السرد فيها، فقد عمدت الكاتبة إلى إقامة تداخل جميل بين مستويات عدة من البناء، فعلى مستوى المتن الحكائي هناك تداخل بين حكاية “لعبة الاختباء” التي كان يلعبها بطل القصة وهو طفل صغير مع صديقته الصبية الجميلة، فكانت تختبئ عنه، فيظل يبحث عنها دون أن يجدها فيناديها: “اخرجي. لقد تعبت من البحث عنك”، وبين اختبائها حين بلغت مبلغ النساء واحتجبت خلف أستار اجتماعية كثيرة، تجعله غير قادر على العثور عليها، وعلى مستوى زمان ومكان الحكاية هناك تداخل بين أحداث الماضي وأماكنه المطاردة والاختفاء وصورة البنت وهي تعدو في الطرقات حافية القدمين، والغرفة القديمة الباردة والكرسي وستارة النافذة حيث كانت تختبئ، وبين الزمان والمكان الحاضرين: صورة الباب الخشبي البعيد الموصد وصالة بيت أهله مفتحة النوافذ تخترقها الحرارة وتعبث الريح بستائرها وأمه الجالسة على الكرسي، وفي مستوى الأسلوب هناك تداخل بين أسلوب السرد الاسترجاعي وبين سرد الحاضر، وكذلك بين حواراتهما قديماً وهما يلعبان وبين حواراته هو حديثاً مع أمه، فهو يتذكر حين قال لها:أخرجي لقد تعبت من البحث عنك.في الوقت الذي تقول له أمه:لا تنفعك، والدها وضيع وأمها تدور في البيوت وسمعتها على كل لسان.لكنني أريدها.هذه مظاهر قليلة من مستويات تداخل البناء في قصة “فن الاختباء”، وهي كثيرة إذا تتبعناها بتأن لا يتسع له المقام، والمهم أن هذه الأبنية الظاهرة تسلم إلى بناء عميق هو التقابل بين الماضي المختفي والحاضر الظاهر، لكن الماضي الذي اختفى كان دلالة على الظهور “ضفائرها الطويلة، أصابع قدميها السمراء ثوبها الزاهي وضحكتها الجميلة”، وأما الحاضر الظاهر فهو دلالة على الاحتجاب “الباب الخشبي الضخم يلوح من بعيد، عالمها يبتعد تدريجياً، يتلون جسدها باللون الأسود، ذلك السواد الذي يتلفع بتقاسيمه”. هنا هذه اللعبة المتقنة تأخذ الكاتبة بتلابيب القارئ ليأتي على النص في تلهف لا ينتهي بانتهاء القصة، وتتركه مبعثر النفس كما الشخصية المحورية في القصة يتساءل عن معنى هذا البناء الذي وجد نفسه متورطاً فيه، عن معنى لحاضره هو ولماضيه، هل الأمس أجمل من اليوم.عند هذا المستوى من التساؤل الذي يرتقي بدلالة النص من مجرد حكاية “فن الاختفاء” إلى سؤال وجودي عميق يستطيع المرء أن يحكم أن هذا النص القصصي الإماراتي يدل على أن الإبداع ليس جلباً لأدوات أو أشكال حكائية خارجية، وليس ترسماً لخطى آخرين، ولكنه ارتقاء بخصوصيات المبدع وتفاصيل حياته، وأدواته الفنية إلى مستوى من الدلالة الوجودية يشاركه فيها غيره

 

http://www.alkhaleej.ae/portal/df8b5...b99ffe875.aspx

bottom of page